لاقى مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي أهميّةً لافتة خلال السنوات الأخيرة، كعنصرٍ فاعلٍ في بناء “التكنولوجيا المسؤولة”. وترافق ذلك مع ظهور مهنةٍ جديدة للمساعدة في توجيه تطبيق الأخلاقيات في هذه التكنولوجيا: خبير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من أنّ دور هذا الخبير، يمكن إدراجه كمنصبٍ أساسيّ داخل الهيكل التنظيمي للشركة، إلا أنه لا تزال الصورة ضبابية حول متطلّبات هذا الدور، ومن الشخص الذي ينبغي أن يشغل هذا الموقع. يكمن الغرض من المقالة في تقديم تعريفٍ أوّلي عن خبير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وعرض أهم المقوّمات التي ترتكز عليها هذه المهنة.
لكن .. في البداية، ينبغي التمييز بين مفهومَي “مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي” ومهنة “خبير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي”، ذلك أنّ المصطلح الأول ينضوي تحته عدة فئات من مبرمجين وباحثين وصانعي السياسات إلخ. الذين يسعون إلى خلق تكنولوجيا مسؤولة في خدمة الإنسان باعتباره المستفيد النهائي. بمعنى آخر هو بمثابة أحجية (Puzzle)، وكل جهة تمثّل قطعة مختلفة، وتلعب دورًا حيويًا في المساهمة بتكوين الصورة الكاملة. ويعدّ هذا المنظور من تعدّد الاختصاصات أمرًا بالغ الأهمية، لأنه يسمح بإجراء تحليلٍ نقدي للآثار الأخلاقية، والنتائج المترتبة على الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا بشكلٍ عام. في حين أنّ خبير الأخلاقيات هو مكوّنٌ واحد من هذه الأحجية. ومن خلال المقالة، فنحن بوارد التركيز على هذا المكوّن دون غيره.
۱. خبير الأخلاقيات
لفهم ماهية “خبير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي”، لابدّ أوّلًا من التطرّق إلى ما يعنيه مفهوم “خبير الأخلاقيات”. وهذا المصطلح ليس بجديدٍ، بل موجود منذ قرون في مجموعة متنوعة من السياقات. ببساطة، هو الشخص الذي يطبّق المبادئ والنظريات الأخلاقية المجرّدة على مواقف ملموسة، وعادةً ما يتم التعبير عن هذه المبادئ على شكل مجموعات إرشادية للعمل مثل المبادئ الأخلاقية المعتمَدة في الطب. قد يبدو للوهلة الأولى أنّ مجموعات المبادئ والنظريات تعمل كحقائق نهائية، إلّا أنها ليست كذلك، كما أنّ المعرفة الشاملة بالنظريات لا يمكن اتخاذها معيارًا لقياس مدى براعة خبير الأخلاقيات. وعليه، يجب أن يمتلك الخبير، القدرة على مراقبة موقفٍ “مشحون أخلاقيًا” على نحوٍ محايد، وتجريد تفاصيل ذلك إلى المبادئ الأخلاقية من أجل تحديد الصواب من الخطأ، ثم إعادة هذا القرار إلى إجراءاتٍ محدّدة من حيث السياق. ويمكن أيضًا الإشارة إلى هذه القدرة على أنها عملية “التعليل الأخلاقي”. وعلى عكس المسار العقلاني، الذي يرتكز على المنطق والنظريات على المواقف، فإنّ المسار الأخلاقي كثيراً ما يتأثّر بالمشاعر والحدس. وعندما يتخذها الشخص العادي، قد تبدو هذه القرارات الأخلاقية “غير عقلانية” لأنّها تميل إلى إعطاء الأولوية للعوامل والقرارات المختلفة دون تفسيرٍ أو وعي. أمّا بالنسبة لخبير الأخلاقيات، فيتمّ تدريبه للتعرّف على المدخلات المنطقية، وغير المنطقية أثناء عملية التعليل الأخلاقي. لكن، هذا لا يعني أنّ الخبير هو شخص “متفوق أخلاقياً” ويمكنه فصل العاطفة عن المواقف المشحونة أخلاقيًا. بل على العكس، عليه أن يكون على درايةٍ معرفية بالمدخلات المختلفة، بما فيها العاطفية، التي ستقرّر الصواب من الخطأ. وهنا، من واجب الخبير عدم إزالة المدخلات العاطفية والبديهية من القرار النهائي، بل أن يعترف بتأثيره كطرفٍ محايدٍ، إلى جانب المنطق والحقائق في القرار النهائي. وبالنتيجة، فهذا النوع من الذكاء إلى جانب التمكّن من تطبيق المبادئ المجرّدة يشكّل مجموعة المهارات التي يجب أن يمتلكها خبير الأخلاقيات.
۲. خبير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي
۳. خبير الأخلاقيات في صناعة الذكاء الاصطناعي
إنّ المعرفة بالسياسات والقواعد التنظيمية ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي، تعدّ مرتبطة بدور خبير الأخلاقيات. ومع بدء البلدان في تنفيذ المتطلّبات القانونية للنظم الذكية، ستصبح الشركات خاضعة لهذه القواعد. في الوقت الراهن، لا تزال القواعد الصارمة لتطوير واستخدام هذه التقنية في بدايتها، في حين أن المتطلّبات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي موجودة فقط كسياساتٍ موصى بها. وهذا يعني أنّ خبير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي يتعيّن عليه أن يظلّ على درايةٍ بالتطورات القانونية المحيطة ، وذلك لأنّ القواعد التنظيمية تشكّل الأرضية لهذه الصناعة. إذ يمكن أن تكون الشركات ملتزمة بالقوانين، ولكن تظلّ علامات الاستفهام تُطرَح من الناحية الأخلاقية. وبالتالي، يجب على خبير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي أن يرصد باستمرارٍ تطوير السياسات والقواعد للحفاظ على الوعي بالمتطلبات القانونية الأساسية، التي يمكن أن يُبنى عليها معايير أخلاقية أخرى. كما ينبغي أن يمتّع الخبراء أيضًا بمهارات اتصال تتمثّل في الإصغاء، والتعاطف مع المواضيع الحساسة. صحيحٌ أنّ مهارات الاتصال مهمة لأيّ مهنة، لكنها تشكّل أهميةً خاصة لدى خبير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وذلك بسبب ميل ردود الفعل العاطفية والدفاعية تجاه المواقف المشحونة أخلاقيًا. وكثيرًا ما تكون القضايا الأخلاقية معقّدة، وتشمل عناصر مثل مجموعات متنوعة من آراء أصحاب المصلحة، والاعتبارات الثقافية وغيرها، وكلها تتطلّب قدرًا معينًا من “رباطة الجأش” والقدرة على الإصغاء والامتصاص، دون إسقاط المعتقدات الشخصية على الظروف.
العديد من الصفات يتعين على خبير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي أن يتمتّع بها. لقد حاولنا من خلال هذه المقالة تغطية ماهية هذه المهنة بشكلٍ موجز، وتناول أهم عناصرها. ولعلنا قد نضيف عليها صفة الشجاعة، إذا لا يوجد نهج خوارزمي محدّد لتطبيق الأخلاق، ما يشكّل تحديًا كبيرًا للخبير في إيجاد الحلّ الذي يتماهى مع القيم الإنسانية، خصوصًا أنّ إحدى أكبر المشكلات في مجال الذكاء الاصطناعي تكمن في الافتقار للمساءلة بسبب تعقيدات الأنظمة الذكية وعدد الجهات المشاركة في تطويرها، وهذا ما يُعرَف بـ”فجوة المسؤولية الأخلاقية” والتي تقع عندما يكون من الصعوبة تحديد المصدر المسؤول بدقة عند وقوع خطأٍ ما. وعندما يدخل خبير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في المعادلة، فقد يصبح هو الوكيل الافتراضي للمسؤولية، ما يستوجب التحلّي بالشجاعة الكافية لتحمّل المسؤولية عن أيّ تداعيات محتملة.