المصدر: Gebauer Company
يلعب التعلّم الآلي دورًا مهيمنًا في العديد من جوانب الرعاية الصحية، من التشخيص إلى العلاج وحتى إلى علم الأوبئة. وحتى وقتٍ قريب جدًا، كان الطبّ يعتمد فقط على الخبرة المهنية التي يحصّلها الأطباء. ولكن مع النموّ في حجم قواعد البيانات أضحت تطبيقات الذكاء الاصطناعي أكثر حضورًا، وباتت الفوائد المتأتّية من تطبيق التعلم الآلي في الطب أكثر شهرة. وفي الوقت الراهن، هناك ثلاثة مجالات تشهد نقلةً كبيرة بفعل منصات التعلّم الآلي في هذا الصدد وهي: تشخيص الأمراض، والتنبؤ بتفشي المرض، ومكافحة التباينات والفوارق العرقية. لكن كيف يتمّ ذلك؟ هذا ما سنحاول اكتشافه من خلال هذه المقالة، بالإضافة إلى إضاءةٍ على بعض التحديات ونقاط الضعف التي تواجه هذه التقنية.
1- أدوات تشخيص
من أوائل تطبيقات التعلّم الآلي في الطب كان تحليل الصور الشعاعية لتشخيص الآفات الجلدية وتقرّحات مرض السرطان. وقد تمّ نشر الدراسة في العام الماضي، واستُخدِمت فيها أكثر من 10000 صورة، تمّ تصنيفها يدويًا من قبل أطباء لتدريب الخوارزمية. وفي بعض الحالات، كان بوسع الخوارزميات الأفضل تدريبًا على النماذج تشخيص إصابات سرطان الجلد بمعدّلات أعلى دقةً من الأطباء البشر.
وتمكّنت الخوارزميات الثلاثة الأولى التي تمّ اختبارها على وجه التحديد في الدراسة، من التمييز بين سبعة أمراضٍ محددة مسبقًا بما فيها سرطان “الخلايا القاعدية”، وهو نوعٌ شائع من سرطان الجلد غالبًا ما يصيب مناطق الجلد التي تتعرّض للشمس. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أنّ الأطباء المصنِّفين قد خفّضوا من أداء الصور، معتبرين أنّها غير كافية في الحالات المرضية الأخرى، وأنّ الأمر لا يزال يتطلّب خبرة طبيب متمرّس. ولكن من المرجّح أن ينخفض الفارق الحالي بين الإنسان والآلة في مثل هذه الحالات، مع توفرّ مجموعات البيانات المصنَّفة والتمثيلية لمجموعةٍ أوسع من الأمراض. وهناك فئة من الأمراض الجلدية تسمى “التقران السفعي” (Actinic Keratosis) تتميّز بنتوءات جلدية و بقع متقشرة، وهي واحدة من الأمراض التي تستطيع الخوارزميات تشخيصها بشكلٍ أفضل من الأطباء المدرّبين، واتّضح أن الخوارزمية كانت تولي تركيزًا أكثر من المعتاد للبشرة المحيطة بالشوائب بدلاً من التركيز على الشوائب نفسها. وبعد أن تمّ توجيه الطلاب للتركيز على مناطق مماثلة في روتين التشخيص الخاص بهم، ازدادت الدقة بما يزيد على الثلث. وعليه، توضح هذه الأمثلة وغيرها كيف يمكن للأطباء ومنصّات التعلّم الآلي العمل معًا بغية تحسين التشخيص ودقّته.
2- التنبؤ الوبائي
وهي من التطبيقات المتنامية الأخرى لتعلّم الآلة في الرعاية الصحية، لا سيما لجهة تتبّع وتوقع تفشي الأوبئة. ويمكن رؤية هذا مؤخرًا في العديد من نماذج التنبؤ لجائحة فيروس “سارس كوف 2” المعروف بفيروس”كورونا”. وفي الواقع، فإنّ هذه النماذج تخدم دورًا بأثرٍ رجعي ومستقبلي. وباستخدام البيانات السابقة، يمكن لهذه النماذج مساعدة الباحثين في فهم منشأ المرض (غالبًا ما يشار إليه طبيًا باسم الحالة صفر)، وكذلك كيفية انتقاله بين الناس. وبعد ذلك يصبح بوسعها المساعدة في التنبؤ بالكيفية التي سيستمرّ بها انتشار المرض، وما هي الفئات الأكثر عرضة للتعرض له. وبالنظر إلى نسبة مستوى السكان، فإن هذه المتغيرات وحجم البيانات تجعل من الصعب جدًا تحقيقها دون مساعدة التعلم الآلي. ومع ذلك، فقد سبق لهذه التقنية أن تمّ الاستعانة بها سابقًا لرصد الصحة على مستوى السكان قيد الاستخدام قبل تفشي مرض “كوفيد 19”. وتمّ استخدام الشبكات العصبية للتنبؤ بانتشار فيروس “زيكا” في عام 2015 لمساعدة الحكومات في تخصيص موارد المراقبة بشكلٍ فعال. كما أنه جرى استخدام التعلّم الآلي للتنبؤ بتفشي الملاريا في الهند وذلك في 2016، وقد سمحت الشبكات العصبية للباحثين بدمج نطاقٍ واسع من المؤشّرات مثل الطقس، والبيانات الاجتماعية والاقتصادية، وذلك للتنبؤ بالانتشار قبل 20 يومًا مقدّمًا.
3- مكافحة التباين العنصري
من الاعتبارات المهمة في مجال الصحة العامة، هو توافر موارد الرعاية الصحية لجميع أفراد المجتمع. وقد بدأ معهد “ميلكن” للصحة العامة بجامعة “جورج واشنطن” الأميركية في العمل على دراسة طبيعة بيانات التعلّم الآلي، وذلك في محاولة فهم وتوقّع الفوارق العنصرية السائدة في مجال الرعاية الصحية والحدّ منها. وتوجد العديد من الثغرات القائمة بهذا الاتجاه في الرعاية، مما يعني أن الأشخاص المنتمين إلى خلفيات عرقية أو اجتماعية اقتصادية معينة لا يتلقون نفس المستوى من الاهتمام الصحي. وعلى سبيل المثال، تستبعد التجارب السريرية بشكلٍ روتيني مجموعات عرقية أو اجتماعية معينة، ما يعني أن النتائج ليست قابلة للتطبيق على نطاقٍ واسعٍ كما هو متوقّع. لذلك، فإنّ هدف هذه المجموعة البحثية في “ميلكن” يكمن في استكشاف هذه المحدّدات الاجتماعية للصحة، وتحديد العوامل التي تؤثر على المخاطر والنتائج الصحية. ومع ذلك، فإنّ أكبر عقبة أمام هذا المشروع يتلخّص في الافتقار إلى البيانات المنظّمة والمعنونة بشكلٍ صحيح، ما يؤدي إلى وقوع تفاوتات في النتائج حكمًا.
4- مخاطر ونقاط ضعف
من الواضح أنّ التعلّم الآلي يلعب دورًا متزايدًا في الرعاية الصحية. ومع ذلك، لا تزال هناك بعض التعقيدات التي يجب وضعها في الاعتبار عند إدخال هذه التكنولوجيا. وأوّلها يكمن في خصوصية البيانات. ولا بدّ من وضع إرشادات واضحة في هذا الإطار، وتحديد نوع البيانات الصحية التي يمكن مشاركتها، والمستوى الذي ينبغي أن تكون عليه مجهولة المصدر لا سيما في المنطقة العربية التي دخلت على خط هذه التكنولوجيا. كما ينبغي أيضًا عدم الاعتماد المفرط على الخوارزميات. فعلى سبيل المثال، وفي إحدى الخوارزميات الأولية التي تم تطويرها للتنبؤ بسرطان الجلد التي ذكرناها أعلاه، تبين أنّ التلاعب بمجموعة بيانات تدريب الإدخال أدّى إلى تشخيصات خاطئةٍ بالكامل. ولسوء الحظ، يمكن استخدام هذا ضمن عمليات الاحتيال وهذا ما يُعرف بـ “تسميم البيانات”، لذلك يجب على فرق الرعاية الصحية أن يعوا لهذا الخطر. ولمكافحة مثل هذه المخاطر، يجري العمل على بناء خوارزميات يخضع لنظام من الضوابط والتوازنات ومن ثم تخضع لمراجعة الخبراء البشر.
وفي المحصلة، يبقى ثابتًا أنّ أي أداةٍ ترتكز على التعاون بين الإنسان و تقنية الذكاء الاصطناعي ستكون بالتأكيد قادرة على إظهار أداءٍ أفضل، لا سيما في مجال حسّاس كالطب. وعليه، يكمن مستقبل الرعاية الصحية في تكامل الخبراء البشريين مع القوة التنبؤية لخوارزميات تعلّم الآلة.