تعتبر حقبة الخمسينيات من القرن الماضي فترة ميلاد علم الذكاء الاصطناعي. هذا المصطلح الذي كان الباحث “ألن نيويل” أول من أطلقه عام 1956. وعلى الرغم من مرور أكثر من 60 عامًا على وجود هذه التقنية معنا بشكلٍ أو بآخر، يبدو أنه يُساء فهمها، ولا يزال الكثير من الناس يغرقون في أساطير حول الذكاء الاصطناعي. وإذا بحثنا قليلًا سنجد أن الإنترنت مليء بمناقشات وآراء حول ذلك. إذ يضع عامة الناس افتراضات لا طائل من ورائها. وفي حين يقول البعض إنه “معجزة”، يخشى البعض الآخر من وتيرة تطوّره. لكن هذا لا ينفي أنّ المجال قد أثبت حضوره في السوق ويمشي بخطًى متسارعة. دعونا نستعرض بعض الأساطير المنتشرة حول الذكاء الاصطناعي، لمساعدتك على فهم حقيقة هذه التقنية ومعالجة بعض المفاهيم الخاطئة ذات الصلة:
1- الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي: ذات المفهوم
كما هو الحال مع العديد من التقنيات الجديدة، أحدث الذكاء الاصطناعي تأثيرًا في الكثير من الصناعات. ويتمّ وصف جميع أنواع المنتجات على أنها بُنيت بالذكاء الاصطناعي، لدرجة أنّ هذا المصطلح أصبح متداولًا بشكلٍ يُفقده المعنى على ما يبدو. لذلك سنحاول استعادة بعضًا من هذا المعنى، وفهم طبيعته حقًا. يمكن تقسيم الذكاء الاصطناعي إلى فئتين: الضعيف والقوي. ويتمّ تشكيل الذكاء الصناعي الضعيف من خلال سلوكيات تستجيب لمهام محددة ومحصورة مثل الروبوت “ديب بلو“ الذي ابتكرته شركة آي بي إم، ولعب الشطرنج مع بطل العالم “غاري كاسباروف” وتمكّن من هزيمته، أمّا الذكاء الصناعي القوي فهو يرتكز على محاولات لنسخ الحالات العقلية الشبيهة بالإنسان، ويمتاز بالقدرة على جمع المعلومات وتحليلها وعمل تراكم خبرات من المواقف التي يكتسبها ومن الأمثلة عليه المركبات ذاتية القيادة. لكن ماذا عن التعلّم الآلي؟
هو أحد أشكال وطرق الذكاء الاصطناعيّ التي تهدف لبناء برمجياتٍ ذكية من خلال الاعتماد على فكرةٍ معينة، وهي التعلّم من الخبرة، ما يعني أنّ البرنامج سيكون لديه القدرة على تطوير طريقة حل المشكلة أو إنجاز مهمةٍ محددة عبر تزويده بكميةٍ كبيرة من البيانات يتدرّب عليها، بما يتيح له تكوين إدراكٍ وفهمٍ جيّدين عن الهدف المراد الوصول إليه وطريقة الوصول إليه. ولا يتمّ اعتبار جميع أشكال الذكاء الاصطناعي على أنها تعلّم آلي، كما هو الحال مع Alexa التي تضيء الأضواء، إذ أنها لا تتعلّم أيّ شيء، بل إنها تنتظر فقط أن يُطلب منها إطفاء أو تشغيل الإنارة، فأنظمة التعلّم الآلي يمكن تغذيتها بالبيانات واستخلاص النتائج بشأنها، ويشمل ذلك البحث في تلك البيانات عن الاتجاهات والأنماط والشذوذ، والمعلومات التي قد لا تكون واضحة بالنسبة لمراقبٍ بشري. وبالتالي، فالتعلّم الآلي هو مجرد مثال على استخدام الذكاء الاصطناعي.
2- الذكاء الاصطناعي: عصا سحرية
بمعزل عن الصناعة ومستوى التعقيد، يكمن مفتاح نجاح الذكاء الاصطناعي في التدريب. إذ نجد أن فلترة البريد العشوائي يحتاج للتدريب على كيفية التعرّف على رسائل البريد الإلكتروني الجيدة من السيئة، كما أنّ برمجيات التعرّف على الكلام ينبغي لها الاستماع لساعاتٍ لا حصر لها من الحوارات المنطوقة قبل التمكّن من تحليل ما يقال، والخروج بنتائج، وما إلى ذلك. فالمسألة إذًا مرتبطة بجودة البيانات. ويجب تدريب الخوارزميات على البيانات الصحيحة، وإلّا فلن تكون قادرة على اتخاذ قرارات جيدة. وعليه، إذا قامت أجهزة الاستشعار في بيئةٍ صناعية مثلًا بعمليات حسابية بشكلٍ خاطئ وقامت بتغذية معلوماتٍ غير دقيقة لخوارزمية مكلفة بمراقبة الأداء، فإنّ كل جيجابايت من البيانات هذه ستصبح عديمة الفائدة، لأنّ الذكاء الاصطناعي في هذه الحالة سيستخدم بياناتٍ سيئة في سياق الوصول إلى استنتاجاتٍ ستكون غير دقيقة. ويتعيّن على البشر معرفة المشكلة، وتدريب الأداة على البيانات الصحيحة، ومن ثم التحقّق من النتائج المتأتية. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكثيرين من المهندسين يجدون أنفسهم يتعلّمون أكثر، عندما يتأتّى عن خوارزمية الذكاء الاصطناعي مخرجاتٍ خاطئة أكثر منها صحيحة. لأنّ هذا يعطي الخوارزمية رؤيةً جديدة لما قد فاتها في المرة الأولى، والتعلّم من الخطأ يجعل الأداة أكثر قوةً بشكلٍ تدريجي. فهل لا زلت تعتقد أن الذكاء الاصطناعي هو “عصا سحرية”؟
3- استحواذ الذكاء الاصطناعي على الوظائف
إذا كنت قلقًا من تمكّن هذه التقنية من الاستيلاء على وظيفتك، فأنت لست وحدك. وتشير دراسة لمعهد ماكينزي إلى أنه بحلول عام 2030، يحتاج ما يصل إلى 375 مليون شخص لتغيير فئاتهم المهنية حيث ستصبح آلية التشغيل الآلي قادرة على القيام بالعمل بشكلٍ متزايد. لكن هل الحديث عن استحواذ الذكاء الاصطناعي على الوظائف حقيقي؟ هنا بعض المعطيات التي ينبغي النظر فيها:
• أغلب الأنظمة هي ذكاء اصطناعي ضعيف، أي أنّها ليست أنظمة تحاكي الطرق المجرّدة للتفكير البشري، بل هي مصمّمة لحل مشاكل محددة ضمن إطارٍ ضيّق. وفي العديد من الحالات يعمل الذكاء الاصطناعي مع المشغّل البشري، حيث يجري تحليل البيانات، ويتعيّن على البشر تدريب الأداة على أداء المهام. ونظرًا لأنّ المشاكل آخذة بالتزايد، نعتقد أنّ الحاجة إلى العامل البشري ستكون أكبر، وليس العكس.
• ليس لدى الذكاء الاصطناعي معرفةً فطرية بالعمليات التجارية. وفي حين أنّ العديد من الشركات تميل إلى إحالة عملياتها التجارية لنظمٍ أكثر مرونة، فإنّ هذه الإحالات غالبًا ما تستدعي تدخّلًا بشريًا لتنفيذها. كما يتطلب هذا النوع من التحوّل مهارات وقدرًا كبيرًا من المعرفة المؤسسية حول الأعمال التجارية وصناعتها وبيئتها التنافسية. وهذا كله يضمن أن يبقى الإنسان جزءً من المعادلة في الفترات القادمة من السنين.
• لا ينبغي تجاهل أنّ أدوات الذكاء الاصطناعي غالبًا لا تعرف أنها قد ارتكبت خطأ، والذي قد يكون خطأً كبيرًا. في حين أنّ الإنسان بخبرته وقدرته على الاستجابة السريعة يمكنه تدارك الأخطاء ومعرفة كيفية منعها في المرة القادمة.
لذلك نفترض أنّ الحديث عن استيلاء الذكاء الاصطناعي على الوظائف ليس دقيقًا. لكن الأكيد أنّ هذه التقنية ستدفع باتجاه إعادة رسم خارطة الوظائف والمهارات المطلوبة ما سينعكس على العديد من القطاعات التي ستتأثر لا محالة ولو بدرجاتٍ متفاوتة.
الله يستر من المستقبل. ما تفلت البرمجيات الذكية وتسيطر علينا.